فصل: بحث في المسيح الإله والمسيح الإنسان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



صرّح هنا بما قاله لأنّ الاستفهام عن مقاله.
والمعنى: ما تجاوزتُ فيما قلتُ حدّ التبليغ لما أمرتني به، فالموصول وصلته هو مقول {ما قلت لهم} وهو مفرد دالّ على جُمل، فلذلك صحّ وقوعه منصوبًا بفعل القول.
و{أنْ} مفسّرة {أمرتني} لأنّ الأمر فيه معنى القول دون حروفه وجملة {اعبدوا الله ربّي وربّكم} تفسيرية لِ {أمرتني}.
واختير {أمرتني} على (قلت لي) مبالغة في الأدب.
ولمّا كان {أمرتني} متضمّنًا معنى القول كانت جملة {اعبدوا الله ربّي وربّكم} هي المأمورُ بأن يبلّغه لهم فالله قال له: قل لهم اعبدوا الله ربّي وربّكم.
فعلى هذا يكون {ربّي وربّكم} من مقول الله تعالى لأنّه أمره بأن يقول هذه العبارة ولكن لما عبّر عن ذلك بفعل {أمرتني به} صح تفسيره بحرف {أن} التفسيرية فالذي قاله عيسى هو عين اللفظ الذي أمره الله بأن يقوله.
فلا حاجة إلى ما تكلّف به في الكشاف على أنّ صاحب «الانتصاف» جوّز وجهًا آخر وهو أن يكون التفسير جرى على حكاية القول المأمور به بالمعنى، فيكون الله تعالى قال له: قل لهم أن يعبدوا ربّك وربّهم.
فلمّا حكاه عيسى قال: اعبدوا الله ربّي وربّكم اهـ.
وقال ابن عاشور:
وهذا التوجيه هو الشائع بين أهل العلم حتى جعلوا الآية مثالًا لحكاية القول بالمعنى.
وأقول: هو استعمال فصيح قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {مكنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم} في سورة الأنعام (6) إذَا أخبرت أنّك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال له: فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها، فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة اهـ.
وعندي أنّه ضعيف في هذه الآية.
ثمّ تبرّأ من تبعتهم فقال: {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} أي كنت مشاهدًا لهم ورقيبًا يمنعهم من أن يقولوا مثل هذه المقالة الشنعاء.
و{ما دمت} (ما) فيه ظرفية مصدرية، و(دام) تامّة لا تطلب منصوبًا، و{فيهم} متعلّق بِ {دمتُ}، أي بينهم، وليس خبرًا لِ (دام) على الأظهر، لأنّ (دام) التي تطلب خبرًا هي التي يراد منها الاستمرار على فعل معيّن هو مضمون خبرها، أمّا هي هنا فهي بمعنى البقاء، أي ما بقيت فيهم، أي ما بقيت في الدنيا.
ولذلك فرّع عنه قوله: {فلمّا توفّيتني كنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم}، أي فلمّا قضيت بوفاتي، لأنّ مباشر الوفاة هو ملك الموت.
والوفاة الموت، وتوفّاه الله أماته، أي قضى به وتوفّاه ملك الموت قبض روحه وأماته.
وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {إنّي متوفّيك} في سورة آل عمران (55).
والمعنى: أنّك لمّا توفّيتني قد صارت الوفاة حائلًا بيني وبينهم فلم يكن لي أن أنكر عليهم ضلالهم، ولذلك قال: {كنتَ أنتَ الرقيب عليهم}، فجاء بتضير الفصل الدّال على القصر، أي كنت أنتَ الرقيب لا أنا إذ لم يبق بيني وبين الدنيا اتّصال.
والمعنى أنّك تعلم أمرهم وترسل إليهم من يهديهم متى شئت.
وقد أرسل إليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم وهداهم بكلّ وجوه الاهتداء.
وأقصى وجوه الاهتداء إبلاغهم ما سيكون في شأنهم يوم القيامة.
وقوله: {وأنت على كلّ شيء شهيد} تذييل، والواو اعتراضية إذ ليس معطوفًا على ما تقدّم لئلاّ يكون في حكم جواب {لمّا}. اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

{ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم}.
هذا الكلام السامى في تأكيد القول الأول، وهو إثبات تنزيه الله تعالى، وأنه ما دعا إلا إلى الوحدانية، ولقد كان كل هذا في مقام التوبيخ وإثبات الحجة عليهم، وعقابهم على كفرهم، وافترائهم على الله تعالى ربهم، وعلى عيسى ابن مريم رسوله سبحانه إليهم.
والجملة السامية السابقة فيها إثبات استحالة أن يكون قد قال: {اتخذونى وأمى إلهين}، فهى تفى بالدليل، وهى هذه الجملة السامية فيها نفى، وإثبات. فيها نفى القول الذي نسبوه بهتانا إليه، وفيه إثبات ما قاله، ولم يقل سواه، ولذلك كان فيه قصر بالنفى والإثبات، فهو يذكر أنه دعا إلى التوحيد المطلق، وفيه إثبات أنه لا يمكن أن يدعو إلا إلى التوحيد المطلق، وذلك لثلاثة أمور:
أولها- أنه هو الذي أمر ربه، ولم يؤمر بغيره، وهو رسول من عند الله، ولا يمكن أن يكون الرسول قد أدى الرسالة على وجهها إلا إذا بلغ ما أمر به دون سواه، ولذا قال عليه السلام: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به}.
ما أمرتنى أن أقوله وأبلغه، وإلا أكن غير مؤد للرسالة.
ثانيها- أنه لم يكتف ببيان أنه أدى ما أمر به إجمالا، بل ذكر حقيقة ما دعا مفسرا غير مجمل، إذ قال: {أن اعبدوا الله}. فإن هي المفسرة، فهو يفسر ما أمر به وهو بين لا إبهام فيه.
وثالثها- أنه اقام الدليل على استحقاقه وحده للعباده سبحانه: (ربي وربكم. أى أنه هو المستحق للعبادة لأنه هو وحده الذي خلقنى، فأنا مخلوق، فكيف أكون إلها، وهو الذي خلقكم وحده فكيف تعبدون غيره؟!، وفى هذا التعبير أثبت وحدانية الخلق والتكوين ووحدانية الذات، كما أثبت تصريح اللفظ وحدانية العبادة.
وقد أكد عليه السلام أنه بلغهم تلك الحقائق، فقال كما حكى عنه ربه: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم. أى كنت مشاهدا لهم رقيبا عليهم تعلم ما حاولوه من الزيغ والتحريف مدة بقائى فيهم، فما تركت تنبيههم إلى التوحيد في العبادة والذات والصفات والتكوين مدة إقامتى بينهم، ولما تركت الدنيا كنت أنت الرقيب.
{فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} في النص الكريم السابق ذكر عليه السلام شهادته عليهم وهو حى، قائم برسالته مؤد لها على وجهها، وفى هذا النص يذكر انتهاء مهمته بوفاته، ويفوض أمرهم إلى ربهم في ألطف تعبير وأدق إشارة.
والفاء للتفصيل كما تدل على الحالية والبعد به، والمعنى عند حد وفاتى ومن قبلها، ومن بعد كنت أنت وحدك الرقيب عليهم العالم بحالهم وأنت على كل شيء عالم بحالهم تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. اهـ.

.بحث في المسيح الإله والمسيح الإنسان:

للدكتور: عبد الكريم الخطيب:
نعرض في هذا البحث قضية الألوهية، التي ادّعاها المدّعون للمسيح، وآمنوا عليها، وأقاموا لها منطقا استساغوه، وغذّوا منه مشاعرهم، وترضّوا به عواطفهم..
وسبيلنا في عرض هذه القضية، هي أن نلقاها لقاء بعيدا عن النصوص الدينية، التي يقيمها أصحاب هذه الدعوى شاهدا على ما يدّعون، وبمنأى كذلك عن النصوص الدينية التي جاء بها القرآن الكريم لدحض هذه الدعوى.
وإسقاط كل حجة لمدعيها.
ذلك لأن تعارض هذه النصوص حول تلك القضية في جانبى الإثبات والنفي، لا يتيح لمن يقف موقفا محايدا من هذه القضية سبيلا إلى الحكم فيها، إذا هو أخذ بتلك النصوص المتعارضة، وجعل لها عنده الاحترام والولاء، الذي يمسكها عليه أصحابها. من طرفى الخصومة في هذه القضية..
إذن، فالعقل، والعقل وحده هو الحكومة التي يرجع إليها للقضاء في هذه القضية، أولا.. ثم إذا كان للنصوص الدينية بعد هذا التقاء مع العقل والمنطق أخذ بها كشاهد يؤيد العقل ويزكّى منطقه، وإلّا انفرد العقل بالحكم الذي يطمئن إليه، ويعيش معه في تلك القضية على وفاق ووئام، وبهذا يحتفظ الإنسان بوحدته، فلا يكون شعوره الديني في ناحية، واتجاهه العقلي في ناحية أخرى.. فذلك أشأم بلاء يبتلى به الإنسان في مسيرة الحياة.
العقل في مواجهة المسيح:
وإن العقل إذ يواجه المسيح، فإنما يواجه منه شخصية تاريخية، لها وجود مادى محقق، رآها الناس رأى العين، كما يرون أنفسهم.. فالمسيح هو «يسوع» الذي ولد في قرية الناصرة من مقاطعة الجليل، بأرض اليهودية، من بلاد الشام، وأمه «مريم»، وأبوه الذي ولد على فراشه، ونسب إليه، هو «يوسف».. وكان مولده إبان حكم الرومان لبلاد الشام في السنة الثالثة أو الرابعة أو السابعة قبل الميلاد، على خلاف في تحديد السنة التي ولد فيها.
والتاريخ يتحدث عن «يسوع» أنه ولد ميلادا طبيعيا، حملت به أمّه مدة الحمل المعتاد للناس، فاحتواه رحمها تسعة أشهر، وأرضعته من ثدبيها، وكفلته كفالة الأمهات لأطفالهن. ثم كان له صبى، وشباب، وكهولة، وطريق في الحياة يسلكه، ورسالة يقوم عليها، وأنه في سبيل هذه الرسالة- شأنه شأن أصحاب الرسالات- قد دخل في صراع مع القائمين في طريقه، والمتصدين لرسالته، حتى انتهى به الأمر إلى الموت صلبا! هذا هو مجمل الصورة التي تقع لعينى من يطالع حياة يسوع «المسيح» ويقرأ ما سطر التاريخ من سيرته! إنه إنسان قبل كل شيء، وفى كل شى ء؟ لم تفكر أمّه التي امتزج دمها بدمه، ولحمها بلحمه، وخالطت روحها روحه، وأنفاسه، لم تنكر شيئا من أمره، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات من أبنائهن، وإن كانت مخايل النبل، والطهر والحكمة تفوحان من أردانه! إنه بكرها، وواحد من أولادها، الذين استقبلتهم بعده!.. ولو أنها رأت فيه شيئا لم تعرفه الأمهات في أبنائهن لأنكرته، أو لأنكرت نفسها، ثم لكانت منها نفرة من الاتصال برجلها «يوسف» ومعاودة الحمل والولادة! فهو- أي عيسى- إن يكن إلها فقد ولدته، ولا يعقل أن تلد إلها أو آلهة غيره.. وإن يكن خلقا آخر، غير الإله، وغير البشر. فلن تطاوعها نفسها على الدخول في تجربة جديدة، تلد بها أعجوبة أخرى! ولكنها إذ لم تنكر من وليدها «يسوع» شيئا، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات في أطفالهن، مضت في طريقها، طريق الأمومة، الذي تسلكه الأمهات! واتصلت برجلها «يوسف» فولدت منه بنين وبنات!! أين يضع العقل المسيح؟
والعقل إذ يواجه المسيح، وإذ يلقاه على هذا الوجه الذي عرفته الحياة منه، وسجله التاريخ له- لا يمكن أن يخرجه عن دائرة البشرية، أو يعزله عن عالم الإنسان..
والمسألة هنا هى: أين يأخذ المسيح مكانه من الناس، وأين المكان الذي ينزله العقل فيه؟
وهنا نرى «المسيح» يأخذ أوضاعا مختلفة، وينزل منازل متباينة..
حسب وزن العقول له، وتقديرها لشخصيته، وحسابها لمقومات تلك الشخصية! وإذن فلا نستبعد أن نرى «المسيح» يأخذ مكان القمة من الإنسانية، كما لا نستغرب إذا رأيناه ينزله منزلة الحضيض فيها.. ففى هذا الفراغ الهائل، بين السطح والقاع، يتحرك الناس، وفيه يتقلّبون، بحيث يملأ بهم هذا الفراغ كلّه! والمسيح- في هذه النظرة- واحد من آحاد الناس، وللناس أن ينزلوه فيهم بالمكان الذي يرونه.. صعودا، ونزولا.. مغالين، أو مقتصدين، أو ظالمين.. دون أن يخرج في هذا كلّه عن دائرة الإنسانية، أو يتعدّى حدودها! فكل قول يقال في «المسيح»، مما يقع في محيط الإنسانية، يمكن أن يوضع موضع البحث والنظر، وأن يعتبر في معرض القبول والتسليم.. فإذا قال فيه قوم إنه نبىّ أو صدّيق.. لم يكن هذا القول مستحيلا.. إذ في الناس الأنبياء والصدّيقون! وإذا قال قوم إنه فارس مغوار، أو فيلسوف عظيم، أو عالم كبير..
لم يكن هذا القول مستحيلا أيضا، إذ في الناس الفرسان والفلاسفة والعلماء! وإذا قال قوم إنه مشعوذ محتال.. لم يكن هذا القول مستحيلا كذلك، لأن في الناس المشعوذين والمحتالين! وهكذا كل قول يقال فيه، مدحا أو ذمّا، مما هو واقع في عالم البشر، لم يكن مستحيلا، ولا مستغربا.. والبحث، والنظر، هو الذي يكشف عن صدق أو كذب كل ما يقال فيه، ويمخض ما فيه من حق أو باطل..